في ذكرى وفاة الدكتور محمود جبريل الورفلي: صوت أصيل للعقل والاعتدال

قبل عام من اليوم، رحل عنا الدكتور محمود جبريل. بينما كانت جائحة فيروس كورونا المستجد تعيث في الأرض فتكا، وفيما كانت الحرب الأهلية الليبية مستمرة بلا هوادة، رحل في صمت أحد رجالات ليبيا المشهود لهم بالاعتدال والحكمة. توفي رئيس الوزراء السابق محمود جبريل عن عمر يناهز 68 عامًا في القاهرة، التي اختارها مكانًا لإقامته بعدما ترك السلطة في عام 2012 متخليا عن رئاسة المجلس الوطني الانتقالي في المرحلة الانتقالية لما بعد معمر القذافي. وكان جبريل أُدخِل إلى أحد مستشفيات القاهرة يوم 21 مارس بعد إصابته بجلطة قلبية، وثبت بعد ثلاثة أيام أنه مصاب بفيروس كورونا، قبل أن يسلم الروح يوم 5 أبريل بعد أسبوعين من الصراع مع الفيروس.

كان الدكتور محمود جبريل أحد أول الداعمين لفكرة إنشاء المركز الدولي لمبادرات الحوار. وقد عرف خلال حياته، على الصعيدين المحلي والدولي، بكونه صوتا ليبيّاً للاعتدال والحوار والحكمة. كان وطنيا حقاًّ وأحدَ أشَدِ المؤمنين بحلم المغرب الكبير، وكان دائماً يضع مصلحة بلاده العليا قبل أي منفعة شخصية، أو مصالح سياسية ضيقة، أو أجندات خارجية. لطالما آمن بليبيا كوطن لجميع الليبيين، بمن فيهم أشد خصومه ومعارضيه. وكانت مواقفه السياسية قائمة على المشاركة، نائية عن الانقسامات.

في خضم معركة طرابلس، تبنى جبريل خطابا واضحا وظهر علنا عدة مرات يحذر المقاتلين الليبيين من النهب، والقتل الانتقامي، والاعتداء على الرعايا الأجانب، وإساءة معاملة أسرى الحرب. كما دعا إلى الوحدة وطالب عناصر الشرطة والجيش في طرابلس بالتنصل من القذافي مع البقاء في مواقعهم لخدمة ليبيا وليس خدمةً لنظام معين أو شخص واحد. وبمجرد سقوط نظام القذافي، أعلن الدكتور جبريل في خطاب متلفز أنه بات بإمكان جميع الليبيين “المشاركة في بناء المستقبل” و “بناء دولة على أساس دستور لا يفرق بين الليبيين، نساء ورجالا، طوائف و أعراق”، معلنا أن “ليبيا أصبحت من الآن ملكا لجميع الليبيين دون استثناء” وأن عليها أن تتحول إلى “قدوة يحتذى بها في المنطقة العربية”.

 
 
كان الدكتور محمود جبريل يؤمن دائمًا بالحوار الشامل كسبيل للخروج من الحلقة المفرغة للحرب الأهلية والصراع الذين يمزقان ليبيا منذ سنوات
 
ولترسيخ هذه المبادئ، وخاصة المبدأ الذي طالما اعتبره مقدسا – وهو إجراء عملية انتخابية حرة ونزيهة كوسيلة للتداول السلمي للسلطة-، أعلن الدكتور جبريل في 3 أكتوبر 2011 أنه سيستقيل من الحكومة بمجرد تحرير البلاد كليا من النظام السابق. وفي 20 أكتوبر 2011، عندما سقطت سرت، آخر معاقل الموالين لمعمر القذافي، وبعد مقتل الأخير بشكل مأساوي، تنحى جبريل بالفعل وفاء للعهد الذي قطعه بالتنحي مع نهاية الحرب، تاركا المنصب للسيد عبد الرحيم الكيب الذي خلفه في 31 أكتوبر 2011. وفي عام 2012، أصبح الدكتور جبريل عضوًا في “تحالف القوى الوطنية”، الذي انتخب رئيسا له في مارس من نفس العام.
 
كان الدكتور محمود جبريل يؤمن دائمًا بالحوار الشامل كسبيل للخروج من الحلقة المفرغة للحرب الأهلية والصراع الذين يمزقان ليبيا منذ سنوات. وقد ظل يشدد دون كلل على ضرورة مشاركة جميع الأطراف المؤثرة في ليبيا في عملية حوار وطني ليبي-ليبي وحقيقي، باعتباره السبيل الأنجع لإقامة سلام دائم، وبناء دولة ليبية ذات مؤسسات قوية وفعالة وخاضعة للمساءلة. وكانت رؤيته تقوم على أن يكون الحوار مملوكا بالكامل لليبيين، وأن يشمل مكونات المجتمع المدني، والجيش الوطني الليبي، والجماعات المسلحة، وشيوخ القبائل، وأنصار النظام السابق. وقد حذر دائمًا من تكرار أخطاء الماضي من قبيل عقد صفقات سياسية خاصة، أو تبني اتفاقات للمحاصصة في السلطة تقدم مصالح ضيقة الأفق وبدون رؤية للمستقبل على بناء الدولة. تلك الاتفاقات الهشة التي همشت الليبيين وتنكرت لخياراتهم وتطلعاتهم مقابل تقديم المصالح الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وفي هذا الباب، يجدر التذكير بانتقاده الشديد للاتفاقية الموقعة تحت رعاية الأمم المتحدة في عام 2015، عندما كان برناردينو ليون مبعوثا إلى ليبيا، حيث وصفها بـ “الصفقة المخزية” بعدما وقفت الأطراف الليبية “موقف المتفرج” في المحادثات. كان ذلك الاتفاق، “المتسرع” و “غير المدروس” من وجهة نظره، سببا في تعميق الأزمة الليبية.
 
وبينما كان يأسف دائمًا للموقف السلبي للبلدان المغاربية من الجهود الدبلوماسية المبذولة لحل الأزمة الليبية، ألقى الدكتور جبريل باللوم الأكبر على المجتمع الدولي الذي لم يكتف بتهميش الأصوات الليبية حسب رأيه، وإنما أساء كذلك فهم الأزمة الليبية وصورها على أنها أزمة صراع سياسي بينما كان الخلاف في الواقع يدور حول الموارد المالية للبلاد في ظل غياب الدولة. كان الدكتور جبريل يرى أن العناصر المؤسسة لأي حوار ليبي-ليبي أصيل يجب أن تركز على إعادة بناء الدولة وليس مجرد ترتيبات لتقاسم السلطة، وعلى ضمان الانتقال السلمي للسلطة والتأكد من عدم إقصاء أي طرف من التمثيل، بمن في ذلك الأعضاء السابقون في نظام القذافي.
 
 
حظي الدكتور جبريل باحترام واسع يتعدى قاعدة دعمه السياسي، وكان يُنظر إليه كقيادي ذي شخصية كاريزمية ورؤية حكيمة، قادرٍ على توحيد ليبيا التي كانت تشق طريقها بصعوبة للخروج من صراع دموي
 
في الانتخابات التي جرت في 7 سبتمبر 2012، قاد الدكتور جبريل “تحالف القوى الوطنية” على أساس برنامج يدعو إلى إقامة حكم ديمقراطي، ونظام سياسي يعلي مبادئ سيادة القانون ومساءلة المؤسسات. وقد فاز التحالف بأكبر عدد من المقاعد في تلك الانتخابات. بعدها، ترشح الدكتور جبريل لولاية ثانية كرئيس للوزراء، وفاز في الجولة الأولى من التصويت بأغلبية 86 صوتًا، بفارق مريح عن الـ 55 صوتًا التي حصل عليها خصمه الأساسي مصطفى أبو شقر. غير أن الجولة الثانية من التصويت آلت إلى منافسه. ووفاءً لمبادئه، أقر الدكتور جبريل بنتائج الانتخابات وواصل العمل لصالح بلاده من خارج السلطة التنفيذية، من أجل بناء “ليبيا المستقبل” التي طالما حلم بها. كرئيس وزراء مؤقت، كان محمود جبريل أحد أبرز الشخصيات في الصراع الذي أطاح بنظام العقيد معمر القذافي. وقد ظهرت نتائج هذا الدور البارز في صناديق الاقتراع التي أعطت “تحالف القوى الوطنية” الفوز في أول تصويت ديمقراطي في تاريخ ليبيا.
 
حظي الدكتور جبريل، الذي شارك قبل انتفاضة فبراير 2011 مع شخصيات ليبية أخرى في مشروع “الرؤية الليبية” بهدف إقامة دولة ديمقراطية، باحترام واسع يتعدى قاعدة دعمه السياسي. فقد كان يُنظر إليه كقيادي يتمتع بشخصية كاريزمية ورؤية حكيمة، قادرٍ على توحيد البلاد في تلك الأوقات العصيبة التي كانت ليبيا تمر بها وهي تشق طريقها بصعوبة للخروج من صراعي دموي. ومع ذلك، فإن خصومه حاولوا في وقت لاحق وقف صعوده السياسي السريع، من خلال تمرير القانون المثير للجدل المسمى “قانون الاستبعاد السياسي”، والذي صيغ على شاكلة “قانون اجتثاث البعث” في العراق، ودفع ليبيا منذ ذلك الحين إلى المزيد من السياسات الإقصائية، بل وإلى الحرب الأهلية العنيفة.
لقد أصبح إطلاق عملية السلام الليبية المستعصية، من خلال حوار شامل ووطني وأصيل، شرطا لا غنى عنه لتحقيق استقرار دائم في ليبيا ومنطقة المغرب الكبير ككل
 
ومهما يكن من أمر، لا يمكن لهذه الانتكاسة المؤسفة أن تبقى قدرا محتوما يلاحق الليبيين. لقد أصبح إطلاق عملية السلام الليبية المستعصية، من خلال حوار شامل ووطني وأصيل، شرطا لا غنى عنه لتحقيق استقرار دائم في ليبيا ومنطقة المغرب الكبير ككل. وقد بات واضحا اليوم أن المحاولات المتكررة لفرض إصلاحات سطحية وتمرير صفقات متسرعة لتقاسم السلطة، إنما هي محاولات محدودة الأفق وغير مجدية. ومن دون تمكين الليبيين بكل أطيافهم، من تقرير مستقبلهم بأنفسهم، من خلال تقديم تنازلات متبادلة من أجل ليبيا اليوم ومستقبل الأجيال القادمة، لن يتم إحراز تقدم يذكر ، وقد تعود عجلة العنف للدوران وإزهاق مزيد من الأرواح.
 
بدون حوار وطني شامل مملوك من قبل الليبيين أنفسهم، ومفتوح أمام المشاركة الفعلية للجميع، بما في ذلك المجموعات المسلحة وجميع المستبعدين من العمليات السياسية السابقة، لن يتم إسكات البنادق بشكل مستدام في أي وقت قريب.
 
بوفاة الدكتور جبريل المفاجئ، فقدت ليبيا والمنطقة برمتها قياديا ليبيا وطنيا، وصوتًا أصيلا للعقل وللحوار السلمي كآلية لحل النزاعات. ومع استمرار تدهور الوضع في ليبيا، يبدو أن الوقت قد حان لجيرانها من البلدان المغاربية لأخذ زمام المبادرة مجتمعةً -بدل التنافس أو تقويض مبادرات بعضها البعض- لكي تدعم بشكل منسق عملية سياسية حقيقية، ذات قيادة ليبية، ومتحررة من التدخلات والإملاءات الخارجية.

Share this article:

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Email

Related Posts

In Brief

Latest News

Join the Diplomacy Now Mailing list.

Receive each monthly edition direct to your inbox.