أصدرت شبكة الباروميتر العربي في السابع من يونيو/ حزيران 2024 نتائج استطلاع رأي موسّع أجري مع أكثر من 2400 شخص في المغرب، في المدّة ما بين 11 ديسمبر/كانون الأول 2023 و30 يناير/كانون الثاني 2024. كشف الاستطلاع عن تصاعد الفقر والهشاشة وسط المغاربة، في مُقابل تشكّي المواطنين من تفشّي الفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها. وتتعمّق الأزمة الاجتماعية التي أرهقت كاهل البلاد في ظلّ فراغ سياسي غير مُعلن يُندر بأفق غير واضح المعالم.
أزمة اقتصادية خانقة
عبَّر أغلب المشاركين في استطلاع الباروميتر العربي عن تدمّرهم من الوضع الاقتصادي الصعب الذي أثّر سلبًا على الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة، إذ صرّح 63% من المستجوبين على أنّ طعامهم أصبح ينفذ قبل توفّر النقود لشراء المزيد، أيّ قبل نهاية كل الشهر. ومن الملاحظ أنّ هذه النسبة قد ارتفعت بالمقارنة مع سنة 2022، إذ كانت تُمثّل فقط 36%.
ويَعتبر أكثر من نصف المغاربة (57% من المستجوبين) أنّ توفّر الطعام يمثّل بالنسبة لهم مشكلة كبيرة أو متوسطة، في ظلّ الارتفاع الكبير لأسعار الغذاء والمحروقات وتكلفة المعيشة بشكل عام. فيما يعتقد 39% أنّ فجوة الثروة قد اتسعت قياسيًا في عام واحد فقط، الأمر الذي يكشفُ غياب المساواة الاقتصادية، وفق ما خلص له التقرير.
وفي السياق ذاته، أشار تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط (مؤسّسة أبحاث رسمية) في يونيو/ حزيران الجاري إلى أنّ %82,5 من الأسر المغربية قد صرّحت بتدهور مستوى المعيشة خلال 12 شهرًا السابقة، فيما عبّرت %4,4 من الأسر عن تحسّن مستواها المعيشي خلال نفس المُدّة. ولم يتجاوز معدّل الأسر التي استطاعت ادخار جزء من مداخيلها سوى %1,8. وفي الغالب ما تشكّك الحكومة المغربية في الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، على الرغم من كونها مؤسّسة دُستورية مُعتمدة.
تُظهر هذه الأرقام تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة والمستمرة منذ تفشّي جائحة كورونا، والتي غالبًا ما تتفادى السلطات المغربية الحديث عنها أو تعزوها إلى عوامل عالمية كالحرب الروسية على أوكرانيا أو مُناخية كموجة الجفاف التي ضربت المغرب مُؤخرًا، في محاولة للتأكيد على أنّ لا مسؤولية لها في تردّي الوضع الاجتماعي القائم.
في المقابل، يؤكّد مجموعة من الباحثين الاقتصاديين، من بينهم الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، على أنّ الأزمة ليست نتيجة الجفاف والحرب في أوكرانيا فحسب، بل إنّها نابعة أساسًا من الطبيعة الريعية للاقتصاد المغربي، والتي يسود فيها الفساد الاحتكار وانتهاز الفرص من لدن الجهات السياسية النافذة، وتنتفي فيها مُقوّمات المنافسة الحرّة، في ظلّ نظام سُلطوي ينعدمُ فيه الفصل بين السلطة والثروة.
بين تفشّي الفساد وتضارب المصالح
كَشف استطلاع رأي الباروميتر العربي عن أنّ 55% من المغاربة التي تبلغ أعمارهم بين 18 و29 عامًا يُفكّرون في الهجرة خارج البلاد، بفعل العوامل الاقتصادية والسياسية وغياب الفرص التعليمية، إلى جانب انتشار الفساد في مؤسسات الدولة. ويقول 53% من هؤلاء إنّهم “قد يتخذوا قرار الهجرة حتى في غياب الأوراق الرسمية اللازمة لذلك”. وأشار نفس الاستطلاع إلى أنّ 74% من المغاربة يعتبرون أنّ الفساد منتشر في مؤسسات الدولة بدرجة كبيرة أو متوسطة.
وقد أظهرت دراسة صادرة عن معهد الدراسات الاجتماعية والإعلامية في مايو/ أيار 2023، والتي ضمّت نتائج استطلاع رأي شمل 491 شابًا وشابة من المغرب تتراوح أعمارهم بين 18 و45 سنة، أنّ 91% من الشباب المغاربة يعتقدون أنّ الفساد يؤثّر على فرصهم في العمل والحصول على فرص دراسية.
ويرى فؤاد عبد المومني، الخبير الاقتصادي والرئيس الأسبق لمنظمة الشفافية الدولية (فرع المغرب) أنّ أصول الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أرهقت كاهل المغاربة في السنوات الأربع الأخيرة هي نتيجة “النهب والفساد والمحسوبية وسباق التسلح ونزاع الصحراء الغربية والتكلفة الباهظة للنظام الملكي ونخبه”. فالاقتصاد المغربي لم يعد يحتمل المُواصلة مع هبوب “رياح معاكسة” كجائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا والجفاف. ويُركّزُ المومني على إشكالية تضارب المصالح التي نخرت الاقتصاد المغربي.
في مايو/ أيار 2018 وثّقَ مجلس النواب المغربي في تقرير نُشر على موقعه الإلكتروني استحواذ شركة إفريقيا المتخصصة في توزيع المنتجات البترولية، والتي يمتلكها رئيس الحكومة الحالي الملياردير عزيز أخنوش (وزير الفلاحة آنذاك)، على أرباح غير مشروعة وغير قانونية، بعد القرار الحكومي الصادر في نهاية سنة 2015، والقاضي برفع الدعم عن المواد البترولية. وفقًا للتقرير فإنّ شركات توزيع المحروقات، وعلى رأسهم إفريقيا التي تُهيمن على استيراد وتوزيع 29% من الديزل، و42% من البنزين الممتاز، قد حصدت في الفترة ما بين نهاية عام 2015 إلى حدود الثلث الأول من سنة 2018 خارج نطاق الربح القانوني، حوالي 17 مليار درهم (نحو 1,7 مليار دولار). ومن المعلوم أنّ أسعار المحروقات تؤثّر بشكل مباشر في أثمان المواد الغذائية بشكل خاص، ومستوى المعيشة بشكل عام.
لم يتجاوب الوزير أخنوش مع التقرير البرلماني الذي اتهم شكرته وشركات أخرى بالفساد، كما لم يُفتح تحقيق قضائي في الموضوع، إذ لازالت هذه الشركات تعمل بنفس المنطق المُنافي للقانون. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن القصر الملكي قد قام بإعفاء رئيس مجلس المنافسة من منصبه (مؤسسة دستورية وظيفتها ضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومحاربة الممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار) بعدما أصدر المجلس قرارًا يدين الأرباح غير القانونية لشركة أخنوش، إلى جانب شركات أخرى، وذلك في يوليو/ تموز 2020. وبالتالي لم يُفعّل قرار المجلس القاضي بتغريم هذه الشركات بـ 8% من رقم معاملاتها السنوية، بأمر من الديوان الملكي.
ويحتل المغرب الرتبة 97 عالميًا في المؤشّر السنوي لمدركات الفساد (CPI) لعام 2023، بينما يتربّعُ على مرتبة متأخرة في مؤشّر التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (الرتبة 120). ويتصدّرُ المغرب قائمة أغلى بلد للعيش في شمال أفريقيا في عام 2024، وفق بحث أجتره مجلة “CEOWORLD”.
غياب المُخاطب الرسمي ومواجهة الأزمة بالقمع
ساهمت الأزمة الاقتصادية السارية في تراجع شعبية النظام بشكل نسبي، خصوصًا في صُفوف الفئات الشعبية المتضرّرة. ويظهرُ ذلك جليًا في المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضًا خلال بعض الاحتجاجات العفوية التي لم تتوقّف منذ بداية سنة 2022.
ولعلّ تصاعد غضب جزء مهم من المغاربة ليس سببه غلاء الأسعار فحسب، بل هو أيضًا بفعل غياب مُخاطب رسمي يشرحُ للناس مآل الوضع الاقتصادي المتردّي. فرئيس الحكومة عزيز أخنوش نادرًا ما يعترفُ بالأزمة، بل العكس، حيث يستغلُّ كل فرصة يظهرُ فيها للترويج لـ “الإنجازات التاريخية” التي حققتها حكومته. وبالتوازي مع ذلك، لا يتواصل القصر الملكي – الحاكم الفعلي للبلاد – مع المواطنين إلّا في الأعياد الوطنية، ولا يخوض في أسباب الأزمة ومآلاتها.
في مُقابل هذا الصمت الرسمي المُطبق، والذي يُندرُ بتصاعد الغضب الشعبي على بعض المؤسسات الدستورية، تتصدّرُ المُقاربة الأمنية المشهد. فالمغرب، وبشهادة أغلب منظمات حقوق الإنسان كمنظمتيّ العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وجهات رسمية كالبرلمان الأوروبي، أصبح يعتمد سياسات قمعية قائمة أساسًا على مُراقبة المجتمع من خلال تعميم الاعتقالات السياسية في صفوف الأصوات الناقدة للسلطة بشكل العام، وللتهميش الاقتصادي والاجتماعي بشكل خاص. ولنأخذ مثالًا عن ذلك: لازالت السلطات تحتفظ ببعض معتقلي حراك الريف المُدانين بـالسجن النافذ لمدة 20 سنة في مُحاكمة انتفت فيها شُروط العدالة، على رأسهم ناصر الزفزافي، الشاب الذي ساهم في تأطير سُكّان منطقة الريف (أقصى شمال المغرب) للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.
بعد اعتقال الزفزافي في مايو/ أيار 2017، توالت الاعتقالات وسط النشطاء المندّدين بتفشّي الفقر والتهميش واللامساواة الاقتصادية، خصوصًا بعد جائحة كورونا. وفقًا لآخر الإحصائيات الصادرة عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فإنّ سنة 2022 لوحدها قد شهدت اعتقال 140 شخصًا على “خلفية تدوينات أو منشورات أو فيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو تحقيقات صحفية، أو بسبب مشاركتهم في احتجاجات سلمية”. ورُبّما لهذا نجدُ أنّ الكثير من المغاربة المشاركين في استطلاع الباروميتر العربي (54%) يُعبّرون عن قلقهم من القيود المفروضة على حريّة الرأي التعبير والأنترنيت من لدن السلطة.
وفي مقابل استمرار التصاعد غير المسبوق لتكلفة المعيشة، تستمر السلطات المغربية في التغاضي عن الأزمة الاجتماعية التي قد تتطوّر إلى أزمة سياسية تعصفُ بالأطراف المُتحكّمة في القرار. فبدلًا من العمل على حل هذه الأزمة، تنشغلُّ (السلطات) بإنجاز مشاريع عملاقة غير منتجة – كأكبر ملعب كرة قدم في العالم – تستنزف المالية العامة للدولة، في إطار التحضير لكأس العالم الذي سيستضيفه المغرب إلى جانب إسبانيا والبرتغال في سنة 2030.
إنّ لجوء الفاعلين السياسيين الرسميين إلى تجاهل المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، بالتوازي مع الاعتماد على تكتيكات قمعية لإسكات الأصوات الناقدة، يضع البلاد على حافة الهاوية ويُندر بمستقبل مجهول.
عبد اللطيف الحماموشي Abdellatif EL Hamamouchi
باحث في العلوم السياسية وصحفي استقصائي مغربي. حصل على جائزة برنامج حرية التعبير والإعلام في شمال إفريقيا لعام 2023 من منظمة المادة 19، وعلى على جائزة Benenson-Humphrey للحرية لعام 2024، وهي جائزة سنوية تمنحها