تدمّر الحرب التي اندلعت في 15 أبريل بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية السودان وشعبه، لتقتل الآلاف وتشرد نحو 2.8 مليون شخص وتعرّض 25 مليون سوداني للجوع. لقد تحوّل ما ظن الطرفين المتحاربين أنه سيكون حملةً خاطفة، إلى حالة حرب مدينة متمادية قضت بالفعل على الكثير من القواعد الصناعية والتجارية والبنية التحتية في البلد التي تتركّز في العاصمة الخرطوم. وامتدت الحرب بسرعة إلى نصف ولايات السودان الفيدرالية الثماني عشرة لتصل إلى دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حيث اتخذت منعطفاً اثنياً مثيراً للقلق مع دعوة القوات المسلحة السودانية المقاتلين المدنيين المتطوعين من شمال ووسط السودان إلى الانضمام إلى صفوفها، وشرعت قوات الدعم السريع في تحشيد واسع للقبائل في دارفور التي ينحدر منها مقاتلوها. ولا بدّ من الانتباه لتحذير الأمين العام للأمم المتحدة من أن السودان يقف على حافة حرب أهلية.
أصدر الرئيس بايدن، بغية إرسال إشارة مفادها أنه سيكون لاستمرار القتال عواقب على المتحاربين، أمراً تنفيذياً في 4 مايو يخوّل إدارته “تحميل الأفراد المسؤولية عن تهديد السلام والأمن والاستقرار في السودان؛ أو تقويض التحول الديمقراطي في السودان؛ أو استخدام العنف ضد المدنيين؛ أو ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. ويتماشى هذا الأمر التنفيذي مع أهداف حكومة الولايات المتحدة عند فرض العقوبات، التي تتمثل في ممارسة الضغط الاقتصادي، وبالتالي تشجيع تغيير سلوك الشركة أو الدولة المستهدفة. وقد استخدمت الولايات المتحدة العقوبات لعقود بهدف التصدي لقضايا مثل انتهاكات حقوق الإنسان، والفساد الواسع، وغسل الأموال، وتمويل الإرهاب، وتعطيل عمليات التحول الديمقراطي التي تسعى حكومة الولايات المتحدة إلى كبحها أو المعاقبة عليها.
الأطراف المتحاربة تفشل في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في مفاوضات توسطت فيها الولايات المتحدة والسعودية
من المثير للاهتمام أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وافقا بعد بضعة أيام من هذا التحذير على إطلاق محادثات جدة في 6 مايو. وتركّز محادثات جدة على تأمين وقف إطلاق نار إنساني مستدام بغية السماح بإيصال الإمدادات التي تمس الحاجة إليها وإنشاء ممرات آمنة للمدنيين. ومما أحبط الوسطاء الأمريكيين والسعوديين، أن الطرفان المتحاربان وافقا على اتفاقات متتالية لوقف إطلاق النار، لكنهما فشلا في الالتزام بالكامل بها. وقد منع ذلك العملية من الانتقال إلى نشر مراقبين لوقف إطلاق النار وفصل القوات، وإلى المحادثات السياسية التي تضم فاعلين مدنيين وسياسيين لرسم طريق للانتقال الديمقراطي.
بعد يوم واحد من انسحاب القوات المسلحة السودانية من المحادثات، فرضت الولايات المتحدة في الأول من يونيو عقوبات على سفر مسؤولين لم تسمّهم من الطرفين المتحاربين وداعميهما المحليين. والأهم من ذلك، أن وزارة الخزانة أدرجت في القائمة السوداء منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للقوات المسلحة السودانية، التي يرأس مجلس إدارتها القائد العام للقوات المسلحة السودانية، وشركة سودان ماستر تكنولوجي، وهي شركة لتصنيع الأسلحة تملك أسهماً في منظومة الصناعات الدفاعية. وقد أعربت الولايات المتحدة أيضاً من خلال استهدافها منظومة الصناعات الدفاعية، وهي تكتل يشرف على أكثر من مائتي شركة تصنّع الأسلحة وتنتج منتجات وخدمات مدنية، عن قلقها بشأن القبضة الخانقة التي فرضتها الشركات العامة التي تسيطر عليها أجهزة الأمن على الاقتصاد الوطني على مدى العقود الثلاثة الماضية. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركتين مملوكتين لقادة قوات الدعم السريع هما شركة الجنيد للأنشطة المتعددة، وهي شركة قابضة تضم نصف دستة من الشركات التابعة، بما في ذلك شركات تعمل في مجال إنتاج وتجارة الذهب، وشركة تريديف، المسجّلة في الإمارات العربية المتحدة التي استخدمت في شراء أسلحة وأكثر من 1000 مركبة مزدوجة الاستخدام لصالح قوات الدعم السريع.
ستسمح قدرات التصنيع العسكري لمنظومة الصناعات الدفاعية للقوات المسلحة السودانية بمواصلة تزويد نفسها بالأسلحة الصغيرة والمتوسطة والمركبات المدرعة والطائرات الصغيرة، التي تنتجها، من أجل خوض الحرب المستمرة الآن. وتسيطر منظومة الصناعات الدفاعية أيضاً على العديد من الشركات المدنية التي تهيمن على الاقتصاد، بما في ذلك شركات تعمل في قطاعات الاتصالات والأدوية والتصنيع والبناء وتجارة السلع. ويخدم كبار الجنرالات في القوات المسلحة السودانية في مجلس الإدارة وفي الإدارة العليا للمنظومة والشركات التابعة لها، مما يضمن لهم مكاسب مالية كبيرة ومزايا عينية. وفي المقابل، استفاد أفراد عائلات قائد قوات الدعم السريع حميدتي، من جانبهم، من نفوذهم الأمني والسياسي المتنامي، على عهد نظام عمر البشير وبعد سقوطه، في تسجيل شركات خاصة يسيطرون على غالبية أسهمها، توفّر بدورها جزءاَ كبيراً من مشتريات قوات الدعم السريع واحتياجاته اللوجستية، بما في ذلك الأسلحة والبناء والنقل، وتجني الأرباح من ذلك.
يمكن للعقوبات المفروضة على الشركات أن تلحق الضرر بخزائن تمويل الحرب أو الطرافين المتحاربين
إن الآثار المترتبة على وضع الأفراد والشركات الأربع على القائمة السوداء من قبل وزارة الخارجية الأمريكية ومكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية خطيرة. ومع ذلك، فتجميد حسابات الأفراد الذين لا يملكون حسابات مصرفية خاضعة للولاية القضائية الأمريكية على الأرجح ورفض منحهم التأشيرة لأفراد لا يسافرون في الغالب سوى إلى دول المنطقة الصديقة لهم، تحيل العقوبات الفردية إلى عقوبات رمزية في أحسن الأحوال. أما العقوبات المفروضة على الشركات فهي أكثر أهمية إذا ما نُفّذت بصرامة لأنها تصيب خزائن تمويل الحرب للطرفين المتحاربين. وهي تشمل تدابير مختلفة مثل تجميد الأصول، وحظر المعاملات المالية، وحظر التجارة، وتقييد الوصول إلى الأسواق الأمريكية، والحد من التفاعلات مع الأفراد أو الكيانات الأمريكية.
من الدلائل التي تؤكّد أن فرض الولايات المتحدة للعقوبات ربما يكون قد ساعد الوساطة هو حقيقة أن الأطراف المتحاربة بقيت في جدة، حتى عندما تم تأجيل المحادثات مراراً وتكراراً بسبب عدم إحراز تقدم. ومن المرجح أن تسعى القوات المسلحة السودانية، من خلال الحفاظ على مشاركتها، لتأكيد زعمها بأنها لا تزال ممثلة سيادة السودان. وتحرص قوات الدعم السريع، من جانبها، على التصرّف بوصفها شريك سلام مسؤول. ومع ذلك، يؤكد السلوك الفعلي لكلا الطرفين المتحاربين عدم صدقهما.
يجب أن تأخذ العقوبات في الحسبان استثمارات الجيش في السودان ودهاء التسلل من الثغرات
واضح أن العقوبات ضد الشركات لم تحقق الكثير من التغيير في شهريها الأولين، حيث لم يتغير سلوك الطرفين المتحاربين بشكل كبير. وفي حين قد يكون من السابق لأوانه إجراء تقييم نهائي، إلا أن هناك نقطتي ضعف رئيسيتين في العقوبات الحالية تحتاجان المعالجة. أولاً، هناك الكثير من الفرص للتهرب من العقوبات بتصميمها الحالي؛ وثانياً، يجب أن تكون العقوبات جزءاً من استراتيجية سياسات دبلوماسية شاملة وعالمية لكي تكون فعالة.
جاء أول مؤشر على فرص التهرب من العقوبات من خلال الرفض المتحدي من قبل من استهدفتهم العقوبات. إذ روّجت القوات المسلحة السودانية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها أن هيئة التصنيع الحربي، سلف منظمة الصناعات الدفاعية، قد صممت خصيصاً للتحايل على الحظر المالي والتجاري الشامل الذي فرضته الولايات المتحدة على نظام عمر البشير في التسعينيات، وساعدت الهيئة السودان على الرغم من ذلك على أن يصبح ثالث أكبر منتج ومصدر للأسلحة في إفريقيا.
تتمثل المشكلة الأخرى في أن من السهل نسبياً نقل الأصول التجارية بعيداً عن الأعمال الخاضعة للعقوبات إلى شركات مسجلة حديثاً. وقد وثّقت تقارير إعلامية محلية كيف قامت عائلة دقلو بتصفية أربع شركات مرتبطة بمجموعة فاقنر في عام 2022 خشية أن تطالها العقوبات الأمريكية الثانوية التي لم تفرض في نهاية الأمر. وعلاوة على ذلك، عندما أوقفت لجنة لمكافحة الفساد محاولات شركة ميرو قولد التابعة لمجموعة فاقنر لتصفية نفسها في عام 2021 عن طريق نقل أسهمها إلى شركة واجهة تأسست في السودان، تمكّنت الشركة من إجراء هذا التغيير في أعقاب انقلاب أكتوبر 2021 الذي أطاح بالحكومة الإصلاحية التي قادها المدنيون.
يمكن أن تؤدي العقوبات المنسق لها دوراً أكثر فعالية في إنهاء النزاع
يصبح هذا النوع من المناورات أكثر سهولة عندما تفرض دولة واحدة فقط، مثل الولايات المتحدة، العقوبات. ويبدو أن استراتيجية أوسع للعقوبات المنسق لها مع حلفائها في الغرب والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في طريقها للظهور وستكون على الأرجح أكثر فعالية. في 12 يوليو، أعلنت المملكة المتحدة فرض عقوبات على ثلاث شركات مرتبطة بالطرفين بهدف قطع تمويلهما للضغط عليهما من أجل الانخراط في عملية السلام ، وإنهاء الفظائع المرتكبة ضد الشعب السوداني والسماح بوصول المساعدات الإنسانية. وبالإضافة إلى الشركات الأربع المستهدفة في قائمة العقوبات الأمريكية في يونيو، أدرجت المملكة المتحدة شركة زادنا الدولية للاستثمار المحدودة المرتبطة بـالجيش في القائمة السوداء وشركة جي إس كيه المتقدمة المحدودة ، وهي شركة أمنية مرتبطة بقادة الدعم السريع.
غالباً ما تتعثّر إجراءات الاتحاد الأوروبي بشأن فرض عقوبات بسبب الحاجة إلى إقناع صانعي القرار في الدول الأعضاء البالغ عددها 27 بأهمية هذه العقوبات، مع معالجة المخاوف بشأن العواقب السياسية المحتملة. وبإمكان السياسة الواقعية أيضاً إضعاف العزم. على سبيل المثال، استوردت قوات الدعم السريع تقنية المراقبة الإلكترونية المتطورة “بريديتور Predator” عبر الاتحاد الأوروبي في عام 2022 بحجة مراقبة العصابات الإجرامية التي تتاجر بالمهاجرين إلى أوروبا.
ومع ذلك ، هناك مؤشرات في وقت كتابة هذا المقال تشي بأن الاتحاد الأوروبي يقوم بصياغة نظام عقوبات ضد السودان على غرار تلك التي أعلنتها الولايات المتحدة مؤخراً والتي تستهدف الأفراد والكيانات التي تعرقل مسيرة السودان نحو الديمقراطية. ويأتي هذا في أعقاب سابقة إدراج مجلس الاتحاد الأوروبي لـ 11 فرداً وسبع شركات مرتبطة بمجموعة فاقنر في فبراير 2023 بسبب تورّطهم في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وأنشطة فساد في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وأوكرانيا والسودان. وتشمل الكيانات السودانية الخاضعة للعقوبات إم إنفيست، الذراع الاستثماري لمجموعة فاقنر في السودان، والشركة التابعة لها ميرو قولد المنتجة للذهب والمتاجرة به. وكانت الولايات المتحدة قد عاقبت كلاهما في يوليو 2020 لقمعهما للمتظاهرين المؤيدين للديمقراطية وتقويض الإصلاحات الديمقراطية في السودان. وفي ذلك الوقت، أفادت التقارير أن كلا الكيانين حافظا على علاقات وثيقة مع عمليات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في مجال تعدين الذهب. وليس واضحاً ما إذا كانت الولايات المتحدة ثم الاتحاد الأوروبي سعيا إلى فرض عقوبات ثانوية على الكيانات السودانية التي تتعامل مع الكيانات الروسية المدرجة في لائحة العقوبات.
الإمارات ومصر يمكن أن تقوضا إمكانية المفاوضات السلمية
تشكل العلاقات والأنشطة التجارية ذات الصلة عاملاً إضافياً. والقوى صاحبة أوثق العلاقات التجارية مع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع هي مصر والإمارات العربية المتحدة. ويرى كلاهما أن نتيجة الصراع المستمر على السلطة في السودان أمر حيوي لأمنهما القومي، أي استخدام السلطات الكليبتوقراطية الحاكمة لاستنزاف الموارد الزراعية والمعدنية في السودان لصالح اقتصاداتهما. ومن المرجح أن تؤدي المكافآت المجزية لقاء انحيازهما إلى الفائز النهائي إلى تحصينهما ضد الضغط الأمريكي الرامي إلى الحد من تعاملاتهما التجارية مع شركات الأمن في السودان.
في هذا السياق، على الولايات المتحدة أن تنظر في توثيق التعاون مع شركائها في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لجعل الإجراءات العقابية أكثر فعالية. ويجب النظر بجدية في استهداف من يزوّدون القوتين المتحاربتين بالأسلحة، حيث ورد أن تركيا تزود القوات المسلحة السودانية بطائرات مسيّرة وأن المقاتلين يتدفقون وكذلك الأسلحة عبر دول الساحل إلى قوات الدعم السريع. ويتطلب الإنفاذ الفعال أيضاً إعلان أن الزبائن والموردين والشركاء التجاريين للشركات الخاضعة للعقوبات والشركات التابعة لها يخاطرون بالتعرّض لعقوبات ثانوية إذا استمرت هذه العلاقات التجارية.
يجب أن تكون العقوبات جزءاً من استراتيجية دولية شاملة، يبدو أنها غائبة في هذه المرحلة من النزاع. ويجب أن تحرم هذه الإستراتيجية المتحاربين من أي دور حاكم في النظام السياسي لما بعد النزاع حيث أثبت كلاهما أنهما لا يباليان بمصير مواطنيهما وبقاء السودان دولةً قابلة للحياة. ويجب على الشركاء في هذه الإستراتيجية أيضاً أن يصرّحوا ويلتزموا بالاستثمارات المالية اللازمة لإعادة إعمار السودان بمجرد توقف الحرب، بشرط أن تخضع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والوكالات الأمنية الأخرى جميع شركاتها للرقابة المناسبة من قبل السلطات المدنية. ودون هذا، ستستمر شركات الأمن في تقويض قدرة أي حكومة مدنية مقبلة على تحقيق سلام مستدام وبناء اقتصاد وطني قابل للحياة في السودان.
سليمان بلدو خبير في العدالة وحقوق الإنسان وحل النزاعات في إفريقيا وقد شغل منصب مدير برنامج إفريقيا في مجموعة الأزمات والمركز الدولي للعدالة الانتقالية، كما شغل أيضاً مواقع في مجالات حقوق الإنسان والوساطة في الأمم المتحدة. وقد قدم المشورة بشأن حقوق الإنسان في مالي ودارفور ويقود حالياً المرصد السوداني للشفافية والسياسات.