سنة 2012 بعد بضعة أسابيع من انتخابي رئيسا للجمهورية التونسية قمت بزيارة العواصم المغاربية الأربع على امل اخراج الاتحاد المغاربي من غرفة الإنعاش التي كان مستقرا فيها منذ سنوات ظاهريا بسبب النزاع الجزائري المغربي حول قضية الصحراء الغربية.
كانت فكرتي التي طرحتها على كل القادة تتلخص في وضع هذا الخلاف بين ظفرين مؤقتا وعدم جعله الشرط الأول والأخير لحلحلة الأزمة واعتماد ما سميته الحريات الخمس أي اعتراف كل دولة مغاربية للمواطنين الموريتانيين والمغاربة والجزائريين والتونسيين والليبيين بالحق في التنقل، في التملك، في العمل، في الملكية وفي المشاركة في الانتخابات البلدية.
حاولت أن أقنع كل القادة بأن مثل هذه العملية ستدخل ديناميكية جديدة قد تمكن من إيجاد حل مغاربي للخلاف بين الدولتين الشقيقتين.
الاقتراح ما سميته الدوائر الثلاث التي ستعتق الصحراويين من البقاء عالقين على هامش الجغرافيا والتاريخ أي إعطاءهم الحكم الذاتي (الدائرة الأولى) في إطار الدولة المغربية (الدائرة الثانية) وتمكينهم من نفس الحريات الخمس ليدرسوا في تونس ويتملكوا في الجزائر ويعملوا في ليبيا (الدائرة الثالثة)
عمليا اقترحت على قيادات الدول الأربع تنظيم قمة تونس في ديسمبر 2013 وبقية القصة معروفة. لم تنعقد هذه القمة أبدا وبقيت مقترحات الحريات الخمس والدوائر الثلاث مجرد أماني لم يتحقق منها شيء.
السؤال ليس العودة للبكاء على كوننا أقل المناطق اندماجا في العالم ولا على ما يكلفنا الامر اقتصاديا من خسائر فادحة ولا التركيز على مسؤولية هذا وذاك في كارثة تتحمل تبعاتها شعوبنا المنهكة
السؤال الذي يجب أن تطرحه كل القوى السياسية خاصة التي ستقود بلداننا بعد خروج الجيل الحالي الذي فوت علينا كل الفرص هو ما الشروط التي ستمكن الحريات الخمس والدوائر الثلاث من الوجود وبصفة أعمّ كيف نخرج الاتحاد المغاربي من غرفة الإنعاش حتى لا نصرخ ذات يوم في قمة الغضب والإحباط اكرام الميت دفنه.
قبل تفحص شروط اخراج المريض من غرفة الإنعاش لا بدّ من العودة للسبب الذي أدخله إياها.
ثمة قناعة راسخة أن المسالة المعطلة لمسار كان سينطلق كالقطار السليم نحو أقرب محطة هو قضية الصحراء الغربية التي تصرّ السلطات الجزائرية منذ عقود على أنها قضية استعمار المغرب لأرض ليست ارضه. حسب ادعائها هي تقف بجانب شعب يدافع عن حقه في دولته الوطنية. بطبيعة الحال تسحب السلطات الجزائرية على قضية الصحراء ملحمة الشعب الجزائري في دفاعه عن استقلاله لكن مع اختلافات جذرية ومغالطات مفضوحة تجعل هذه السردية مجرد قناع على أسباب أعمق لا تريد هذه السلطات الإفصاح عنها.
عليّ قبل المواصلة التركيز على ما في هذه السردية من أشياء لا معقولة جعلتني أرفضها مند البداية. هل كان على المغاربة الاعتراف بحق تقرير المصير ل ‘’ شعب” طنجة و” شعب الشمال الريف ‘‘وكانا تحت الوصاية الدولية والاستعمار الاسباني؟ هل المغاربة والصحراويين من عرق مختلف ودين آخر كما كان الحال في الاستعمار الفرنسي للجزائر؟ ثم هل يتصور الجزائريون أن الأمير عبد القادر كان بوسعه (في إطار السردية الاستعمارية) أن يؤسس أكبر امبراطورية فرنسية وأن يبني مدينة مثل مرسيليا.
هذا بالضبط ما وقع تاريخيا والصحراويين هم الذين بنوا مدينة مراكش واسسوا أولى الدول المغربية الكبرى أي دولة المرابطين التي دامت من 1056 إلى 1147
ثم كيف يمكن الحديث عن استعمار والمغرب لم يجني من الصحراء أي ثروة بل وضع فيها إمكانيات رهيبة لتطويرها؟ هل يمنع المغرب عودة الذين هاجروا بعد الحوادث الأليمة التي جدت على إثر تنازع أقصى ما يمكن وصفه بالصراع القبلي أما وصفه بالاستعمار فكلام لا يقبله عاقل.
المشكلة ان هذه السردية التي لا تستند على أي منطق جغرافي تاريخي انساني ترسخت في عقول أجيال من القادة وهم كمن يكذب كذبة ثم ينتهي بتصديقها بل جعلها في مصاف المقدسات التي يحرم الخوض فيها.
في آخر المطاف، السياسة ليست مطالبة كما يعتقد المكيافيليون بأن تلازم المنطق والحقيقة كل المطلوب منها هو تحقيق نتائج في صالح من يختلق ويستعمل هذه السردية او تلك.
من هذا المقياس يمكن القول إن سردية النظام الجزائري عادت بالوبال بالأساس على أجيال من الصحراويين العالقين في تندوف، أنها عادت بالوبال على الجزائريين والمغاربة وهي تمتص من ميزانيات دول فقيرة كميات هائلة من الأموال لتكديس الأسلحة، أنها عادت بالوبال على كل المغاربيين غير المنخرطين في الصراع من تونسيين وليبيين وموريتانيين وهي تغلق في وجوههم فضاء كبيرا للعمل والتنقل والاستثمار.
ثمة قاعدة أخرى في السياسة تختزل في الردّ على سؤال آخر: إلى اين ستؤول الأمور إن واصلنا التعلق بهذه السردية والتصرف على أساسها؟ الجواب للأسف بديهي: تواصل شقاء أجيال من الصحراويين فمنفاهم بتندوف، توقف كل اندماج وكل تنسيق في عالم ترابطت خيوطه بكيفية تستعص على الحل، تزايد افقار الشعوب بمزيد من نفقات التسلح أخيرا الكارثة التي نخشاها جميعا: الحرب.
ها هي اليوم تقرع طبولها والأدهى والأمر أنها قد تكون حربا بضلوع أطراف خارجية منها الذئب الإسرائيلي الذي اعتقد ان الاخوة المغاربة ارتكبوا خطا فادحا في اقحامه في مشاكلنا لا لشيء إلا لأنه سيعطي لجنرالات الجزائر حكام البلد الحقيقيين شهادة الوطنية والقومية ومناهضة للصهيونية الخ تعيد الحياة والمصداقية لسرديتهم.
ما الذي يمكن استنتاجه والأمور تتزايد تعقيدا بخروج تونس من دورها الحيادي التقليدي والتوفيقي بين الشقيقين واصطفافها مع النظام الجزائري الذي أصبح يتبجح بأنه” لن يسمح” بالمسّ من حليفه الجديد الذي يشاركه نفس الفهم في ممارسة السلطة.
نأتي هنا للسبب الهيكلي لتوقف مسار الاتحاد والذي لا زال الكثير يتغافلون عن أهميته وقد حجب التركيز على الشجرة أهمية الغابة.
قلّ من ينتبه لدروس التاريخ خاصة الأقرب منا زمانا ومكانا.
كلنا ننظر بإعجاب لمعجزة بناء الاتحاد الأوروبي بقرابة سبعة وعشرين شعبا واثنين وعشرين لغة وما انجرّ عن ذلك من تسهيل العيش على الشعوب وتطورها الاقتصادي بينما نعجز نحن العرب بصفة عامة والمغاربيون بصفة خاصة رغم تشاركنا في نفس اللغة والدين على بناء أبسط روابط الصلة والتقارب.
ما لم يفهمه الكثيرون أن أوروبا لم تحقق معجزتها في القرن الماضي بالاتحاد بين الدكتاتورية النازية والفاشية الإيطالية والشيوعية البولونية والفرانكية الاسبانية والسالازارية البرتغالية. هي حققت وحدتها عندما انهارت هذه النظم الاستبدادية التي لا تتحد بينها أبدا وكل ديكتاتور يريد نفسه ملك الملوك. هي حققت وحدتها بسلاسة وسهولة عندما انتصبت على أنقاضها نظم ديمقراطية. وحدها هذه النظم قادرة على بناء اتحادات في مصلحة شعوبها لأن الحاكم الديمقراطي يستجيب لمطالب شعبه، لأنه يعرف انه عابر سبيل وليس مخلدا في الحكم وبالتالي هو لا يتصرف في بلاده كمزرعة لا يسمح لمنافس أن ينافسه في حكمها.
الدرس هو أنه يجب الكف عن طرح قضية الاتحاد قبل قضية الديمقراطية. يوم نبني أنظمة ديمقراطية حقيقية سترحل كل السرديات الزائفة بطبيعتها وستتحقق الحريات الخمس دون مشكلة وسيعيش الصحراويون أحرارا داخل الدوائر الثلاث خلصوا من اسر تندوف.
ما عدا هذا الارتطام دوما بنفس الحائط أو الدوران في نفس الحلقة المفرغة كما نشهد اليوم مع تعدد وفشل كل المحاولات الدبلوماسية أيا كان مصدرها.
لحسن الحظ ثمة أسباب تبعث على الأمل. تذكروا فرح الجزائريين بانتصار المغاربة في كأس العالم وتذكروا كيف يعانق الرياضيون الجزائريين والمغاربة بعضهم البعض بعد انتهاء أي مباراة.
إنه رأس المال لكل السياسيين الأذكياء المنخرطين في عصرهم للاستثمار في تنمية أوطاننا وترك بصماتهم على التاريخ أي محبة الشعوب المغاربية لبعضها البعض ورفضها المتزايد لكل هذه الأنظمة التي تدعي أنها الحل وهي أكبر مشكل.
ولا بد لليل ان ينجلي
