الأزمة اللبنانية وآفاق الحوار

جو معكرون

يعيش النظام اللبناني ازمة بنيوية ووجودية تطرح تساؤلات حول امكانية استمراره بدون اصلاحات جوهرية بعد حوالي ثلاثة عقود على اقرار اتفاق الطائف الذي انهى النزاع المسلح في الحرب الاهلية اللبنانية. هذا النظام أظهر انه لا يمتلك الاليات الدستورية والمؤسساتية لادارة النزاعات السياسية التي تأخذ طابعا طائفيا بين اركان الطبقة الحاكمة. سوء ادارة البلاد ودرجات الفساد غير المسبوقة ادت الى انهيار اقتصادي واجتماعي وانفلات امني يجعل لبنان ضمن تصنيف “دولة فاشلة”. في ظل هذا المناخ، وبعد بعما دعا الرئيس اللبناني ميشال عون مؤخرا الى حوار وطني، تناقش هذه الورقة مدى امكانية وشروط نجاح فكرة حوار وطني وهل اتفاق الطائف لا يزال اطارا صالحا لمعالجة ازمات هذا النظام؟

عمق الازمة

على عكس ازمات سابقة في تاريخ لبنان الحديث، حجم الانهيار اليوم لا يكفيه ضمادات ومسكنات. هناك حاجة ملحة لتعديلات واسعة النطاق تعالج جذور الازمة، ولذلك لا بد من تسليط الضوء على ابرز ملامح هذا الانهيار والاثار التي يتركها على المجتمع اللبناني. العملة اللبنانية فقدت اكثر من 90 بالمئة من قيمتها منذ الازمة المالية عام 2019 والسعر الحالي لصرف الليرة اللبنانية تتحكم به السوق السوداء. تشير دراسة  نشرتها “الاسكوا” في شهر ايلول/سبتمبر الماضي الى ارتفاع معدل “الفقر المتعدد الابعاد” في لبنان من 42 بالمئة عام 2019 الى 82 بالمئة العام الماضي. الاسابيع الاخيرة شهدت اضطرابات اجتماعية بين تظاهرات احتجاجية موجهة ضد  المصرف المركزي والمصارف التجارية التي لم تفرج بعد عن اموال المودعين منذ الانهيار مقابل تظاهرات نقابية ضد غياب الدعم الحكومي في ظل الضائقة المعيشية وارتفاع اسعار المحروقات. تعكس هذه التظاهرات النزاع القائم حاليا في لبنان حول من يتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي والاهم من ذلك من يدفع ثمنه، المودعين ام المصارف ام الدولة؟ هناك ايضا تداعيات انفجار مرفأ بيروت في شهر آب/اغسطس الماضي الذي عمّق ازمة الشرعية والثقة في النظام. مع استمرار اهالي الضحايا في المطالبة بالعدالة تعيق الخلافات السياسية وصول التحقيق الى نهايته. كل هذه الازمات المتراكمة وغيرها تحتاج الى اصلاحات ملحة تطال اسس السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والقضائية، لكن هل يمنع الصراع السياسي وافق التغيير المحدود فرص تحقيق هذه الاصلاحات؟

مؤتمر الحوار واتفاق الطائف

اللقاءات الثنائية التي اجراها الرئيس عون بشأن عقد مؤتمر حوار وطني لم توحي بأن هناك نوايا جدية للخروج من هذه الازمات او استعداد من الطبقة الحاكمة لنقاش اصلاحات جوهرية، لا سيما ان الرئاسة التي دعت للحوار طرفا في الصراع السياسي القائم، فيما الحكومة الجديدة ليست قادرة على اتخاذ قرارات رئيسية أبعد من ادارة الانهيار. في النهاية تم تأجيل هذا الحوار الوطني حتى إشعار آخر لأن تركيز السياسة اللبنانية في المرحلة الحالية هو على الحسابات السياسية استعدادا للانتخابات النيابية والرئاسية اذا جرت في مهلها الدستورية.

لبنان بحاجة الى اطار اوسع لحل مشكلة نظامه البنيوية. العودة الى مؤتمرات دولية او اقليمية او محلية تقتصر على الطبقة الحاكمة لم يعد مسارا قابلا للنجاح في ظل انتفاضة اللبنانيين منذ عام 2019 التي نزعت الشرعية عن الطبقة الحاكمة بدون ان تطرح بديلا جاهزا. الطبقة الحاكمة التي ساهمت في هذه الازمات لا يمكنها ان تقود وتصنع وحدها الحلول للخروج منها. عادة تشكل الانتخابات النيابية فرصة مؤاتية لاعادة انتاج المشهد السياسي في بلد ما، لكن هذا الامر لا يبدو متاحا خلال الانتخابات اللبنانية الربيع المقبل في ظل امساك الطبقة الحاكمة بالآليات الانتخابية والمؤسسات الامنية والقضائية والاعلامية. المجموعات التي تعارض هذا النظام تحاول تنظيم نفسها عشية الانتخابات وقد تحقق اختراقات في بعض الدوائر الانتخابية، لكنها غير قادرة بعد على ايجاد خطاب موحد وعلى ضمان اكثرية كافية لاقرار اصلاحات جوهرية في المجلس النيابي المقبل الذي سينتخب رئيس ترضى عنه الطبقة الحاكمة التي تختاره والقوى الخارجية التي تدعمها. اذا التغيير الطوعي من داخل المؤسسات الدستورية غير متاح في المدى المنظور بالرغم من الضغوط الشعبية المتراكمة. الحلول الممكنة يمكن ان تكون اولا ترتيبات خارجية تمهد للحد الادنى من الاستقرار لادارة الانهيار. ثانيا ارتفاع وتيرة الضغوط الشعبية بالتوازي مع عقوبات دولية على الطبقة الحاكمة تفرض اصلاحات جذرية. لكن اثبت مسار تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية ان الضغوط الخارجية عبر العقوبات ليست فعالة دائما، لا سيما عندما تكون انتقائية، كما ليست خيارا مطروحا للمجتمع الدولي الذي تراجع عن طرح حكومة خبراء مستقلة عن الطبقة السياسية وكانت النتيجة حكومة من صناعة الطبقة السياسية. ثالثا، مسار طويل الامد يسمح للمعارضين لهذا النظام تقديم أنفسهم تدريجيا كبديل اكثر شبابا وحيوية من الجيل القديم للطبقة الحاكمة الذي يبدو غير قادرا على ضمان نجاح مشاريع التوريث السياسي التي يعد لها.

مقابل ذلك، يعيش نظام الطائف ازمة وجودية منذ عقدين، لا سيما بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري وما تبعه من انسحاب النظام السوري من لبنان وانتهاء التعاون السعودي-السوري الذي صاغ السياسة اللبنانية حينها بموافقة اميركية-فرنسية. بعدما كان النظام السوري يدير الخلافات المحلية، ملأ حزب الله هذا الفراغ السياسي وفرض نفوذه على الطبقة الحاكمة، لا سيما بعد المواجهات المسلحة في أيار/مايو 2008. وفي ظل الغياب الحالي لتعاون اميركي-ايراني، لم يعد هناك ضابط ايقاع خارجي لادارة الازمة اللبنانية. اتفاق الطائف، بشكل متعمد او لا، ترك بنود مبهمة في الدستور لحل الخلافات في نظام اصبح فيه ثلاثة رؤساء، وبالتالي هناك حاجة الى اجماع سياسي لحل هذه الخلافات او تدخل من القوى الخارجية المؤثرة. اصبح اتفاق الطائف في ما يشبه “موت سريري” لكن لا احد يجرؤ على اعلان الوفاة لان ليس هناك بديل جاهز متفق عليه. هناك هاجس من سيناريو محتمل قد يؤدي الى ترجمة نفوذ حزب الله وحلفائه الى اصلاحات تغير طبيعة توزيع القوى في النظام اللبناني، بدل محاولة كسر دوامة النزاعات الطائفية وايجاد آليات خلاقة لادارة الخلافات. النظام التوافقي يوفر حق النقض المتبادل داخل المؤسسات السياسية، وبالتالي يعالج معضلة عدم وجود الثقة بين الاطراف عندما يكون النزاع القائم بدون حل واضح. التمهيد لاي حوار فعال يحتاج الى تعديل دينامية النظام التوافقي عبر اصلاحات تتجاوز الاعتبارات الطائفية وتعيد بناء الثقة وتسعى لتشكيل حالة مدنية واعلامية وقضائية ونقابية خارج النفوذ المباشر للطبقة الحاكمة لتضغط باتجاه هذه الاصلاحات.

في ظل الوضع السياسي الراهن، من غير المتوقع ان يكون هناك اختراق جدي في لبنان قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل، واستنادا الى نتائج الانتخابات النيابية قد يكون هناك تأجيل للانتخابات الرئاسية كما حصل سابقا حتى التوصل الى اتفاق حول اسم الرئيس المقبل. هذا الوقت الضائع يمكن ان ينعكس ايضا على مسار تشكيل الحكومة بعد انتخاب الرئيس. هذا يعني عام 2022 قد يكون وقت ضائع اضافي في مسار وقف الانهيار مع ما يعني هذا الامر من تفكك اجتماعي وانفلات امني. لحظة الانهيار تكون عادة فرصة لتمرير اصلاحات جذرية تعدل السياسات الاقتصادية والمالية القائمة، لكن في لبنان يبقى حاكم المصرف المركزي المقرر الاول في رسم السياسة المالية في ظل غياب اي خطة حكومية او رقابة برلمانية. ليس لدى النظام اللبناني رؤية اقتصادية واضحة للخروج من الانهيار في ظل غياب اي رغبة اصلاحية على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية. ليس هناك عصا سحرية لازمة لبنان سوى مراحل تدريجية تعيد تشكيل المشهد السياسي وتفصل الخدمات الرئيسية للدولة عن الولاء للزعامات وتمنع سطوة الاسلحة والعنف على النظام العام والحياة السياسية. كما يحتاج لبنان الى غطاء دولي يحد من حجم التدخل الخارجي في ادارة نظامه.

هناك تساؤلات حول ماهية المعايير لانجاز حوار وطني فعال. كل المبادرات السابقة في تاريخ لبنان الحديث التي قادتها اطراف خارجية فشلت في نهاية المطاف، بما في ذلك اتفاق الطائف. هل يمكن ان يكون الحوار المقبل محرّك داخليا وهل هناك لاعب داخلي ليس جزءا من الصراع السياسي وليس له مصالح مباشرة في الازمة اللبنانية يمكنه ان يلعب هذا الدور؟ هل ستكون الطبقة الحاكمة منفتحة على تمثيل أوسع لحوار على قدم المساواة مع ممثلين عن تلك المجموعات التي تعارض النظام الحالي؟ هل يمكن للاطراف الخارجية المؤثرة في السياسة اللبنانية ان تشجع هذا المسار او تتنحى جانبا او لا تعارضه؟ والاهم من ذلك، هل يجب ان يكون هناك استعداد مسبق في تبني الاصلاحات التي سيتم الاتفاق عليها سواء كان في البرلمان او من خلال استفتاء شعبي تنظمه هيئة محلية محايدة تحت اشراف دولي؟ تسوية اصلاح النظام لم تنضج بعد في ظل النزاعات الداخلية والاقليمية والدولية المتشابكة، لكن مسار الحوار الوطني يجب اطلاقه في اسرع وقت ممكن لانه قد يكون السبيل الوحيد لانقاذ لبنان.

Share this article:

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Email

Related Posts

In Brief

Latest News

Join the Diplomacy Now Mailing list.

Receive each monthly edition direct to your inbox.