السيناريو الأكثر احتمالًا في إطار اتفاق روسي-أوكراني

شهد الصراع الروسي-الأوكراني طيفًا واسعًا من السيناريوهات المقترحة لإنهائه، تراوحت بين توجهات متشددة تدعو إلى الحسم العسكري، وأخرى أكثر واقعية تميل نحو تسوية سياسية جزئية. من بين هذه السيناريوهات، برز مقترح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والذي يدعو ضمنًا إلى قبول أوكرانيا بالأمر الواقع، بداية بالاعتراف بسيادة روسيا على الأراضي التي ضمتها منذ عام 2014. غير أن هذا الطرح يصطدم بإرادة شعبية أوكرانية رافضة؛ إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من 80٪ من الأوكرانيين يرفضون التنازل عن أي جزء من أراضيهم. هذا الواقع الشعبي يقيّد الرئيس زيلينسكي، ويمنعه من تقديم تنازلات تمس بالوحدة الترابية للدولة، حتى لا يلقى المصير ذاته الذي واجهه سلفه عقب خسارة القرم.

أوكرانيا تواصل المطالبة بانسحاب كامل 

في المقابل، تطالب أوكرانيا، مدعومة بالقوى الأوروبية، بانسحاب كامل للقوات الروسية من الأراضي المحتلة، مع توفير ضمانات أمنية متعددة الأبعاد. لكن، ومع تعثر هذا المسار وصعوبة فرضه على الأرض، تتجه الأنظار إلى سيناريو أكثر واقعية، يشبه إلى حد بعيد اتفاق الهدنة بين الكوريتين عام 1953، ويقوم على تجميد النزاع ووقف إطلاق النار، دون التوصل إلى اتفاق سلام شامل.

يتيح هذا السيناريو لأوكرانيا تفادي المزيد من الخسائر العسكرية والبشرية، دون الاعتراف بسيادة روسيا على القرم أو الدونباس وخيرسون وزابوروجيا، وهي أراضٍ تظل، من منظور كييف، “محتلة” أو “متنازع عليها”. وفي الوقت ذاته، يُغلق الباب أمام انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو مطلب تعتبره موسكو مسألة أمن قومي غير قابلة للتفاوض.

من جهة أخرى، يمنح هذا السيناريو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة للإعلان عن “نصر استراتيجي” على الغرب دون تقديم تنازلات رسمية، مع إمكانية تثبيت سيطرته على المناطق المحتلة عبر استفتاءات صورية أو دمجها في الدستور الروسي، أو حتى التعامل معها كأقاليم انفصالية موالية كما فعل في أبخازيا وأوسيتيا بجورجيا. وسيُبقي الكرملين على وجوده العسكري في هذه المناطق كورقة ضغط دائمة، ووسيلة لتعزيز مكانة روسيا كقوة لا تزال قادرة على تحدي الغرب.

سيناريو قد يضعف أوكرانيا وسيحافظ على سيادتها 

ورغم أن هذا السيناريو يُضعف أوكرانيا، إلا أنه لا يؤدي إلى تفككها، بل يضمن لها البقاء كدولة ذات سيادة، مما يسمح باستمرار الدعم الأوروبي العسكري والاقتصادي، لا سيما في ظل انقسام القارة الأوروبية بين شرق خائف من التوسع الروسي وغرب يخشى التورط المباشر، مقابل دول تبدي ميولًا موالية لموسكو دون تحفظ.

في هذا السياق، برزت هشاشة الاستراتيجية الأوروبية بشكل واضح، خاصة بعد أن قامت إدارة ترمب بتهميش الاتحاد الأوروبي في ملفات الأمن والدفاع. لقد عرّت مواقف واشنطن المعلنة مدى اعتماد أوروبا على الغطاء الأميركي، وكشفت أن الاتحاد، رغم حجمه الاقتصادي، لا يزال عاجزًا عن بلورة سياسة خارجية مستقلة وقادرة على حماية مصالحه الجماعية. كما أن تراجع التزام الولايات المتحدة بأمن القارة، سواء في عهد ترمب أو بعده، أدى إلى شعور متزايد بالقلق لدى العديد من العواصم الأوروبية، التي بدأت تدرك أن التحالف الأطلسي لم يعد يضمن بالضرورة أمنها كما كان في السابق.

الدول “الوسيطة” من شأنها الاضطلاع بدور الوساطة لإنهاء الصراع  

وعلى مستوى الوساطة الدولية، فإن الولايات المتحدة ليست مؤهلة للعب دور الوسيط المحايد، لأنها طرف رئيسي في الصراع، سواء من خلال دعمها العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، أو عبر خصومتها السياسية مع روسيا. وكان من المفترض أن تضطلع الأمم المتحدة بدور قيادي في رعاية مفاوضات الحل، إلا أن ما حدث يسلط الضوء على فشل المنظمة الأممية، ومعها المنظومة الدولية ككل، في إدارة الأزمات المعقدة. هذا الفشل يعيد إلى الأذهان التجربة المريرة لعصبة الأمم في الفترة ما بين الحربين العالميتين، حين عجزت عن منع التصعيدات العسكرية الكبرى، فانزلقت البشرية نحو حرب شاملة. اليوم، يبدو العالم مرة أخرى على أعتاب نظام دولي يعاني من فوضى تشبه تلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية، حيث تغيب سلطة دولية قادرة على فرض القانون، وتتراجع القواعد التي قامت عليها العلاقات الدولية الحديثة.

في هذا المشهد المعقّد، تبرز أيضًا قوة الدول “الوسطية”، أي تلك التي لا تصطف بشكل مباشر خلف أي من الطرفين، مثل تركيا، والهند، ودول خليجية، والتي باتت تلعب أدوارًا دبلوماسية واقتصادية حساسة وتحاول التوسط أو تحقيق مكاسب استراتيجية من هذا التحول. ويؤشر هذا التعدد في مراكز التأثير على نهاية مرحلة “الأحادية القطبية” التي أعقبت الحرب الباردة، وبداية نظام دولي غير مستقر، تحكمه موازين قوى هشة، وتحالفات مرنة تتغير حسب المصلحة الظرفية.

أما الصين، فهي تتابع تطورات المشهد بعين استراتيجية يقظة، فهي لا ترغب في خروج الغرب منتصرًا من هذا النزاع، كما لا ترغب في تعاظم النفوذ الروسي، بل تسعى إلى إطالة أمد الاستنزاف، وخلق ظروف مناسبة لتوسيع نفوذها، لا سيما في تايوان ومحيطها الآسيوي. كما أن تجميد النزاع سيتيح لها فرصًا للاستثمار في إعادة الإعمار الروسية، وتعزيز حضورها الاقتصادي في أوراسيا.

أما موسكو، فتبقى قادرة على التحول إلى حرب استنزاف طويلة المدى، خاصة بعد استعادتها لمناطق مثل كورسك، وذلك انسجامًا مع عقيدة الكرملين التي تعتبر الزمن سلاحًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن السلاح التقليدي.

 

سعيد السالمي، أستاذ الجيوسياسة سابقا في جامعة فرنش كونتي في فرنسا، وهو كذلك باحث وصحفي ومنتج في “نون فيلمز”، مؤسسة للانتاج السمعي البصري في لندن

Share this article:

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Email

Related Posts

In Brief

Latest News

Our monthly analysis on diplomacy, mediation and conflict resolution is trusted by scholars, leaders and researchers from around the world.

By signing up for Diplomacy Now, you can expect to receive expert analysis on mediation and conflict resolution straight to your inbox, every month.